كتابة الأعزب الكلام والسجن المُفرّغ من العقوبة

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
01/06/2012 06:00 AM
GMT



الأعزب كوجود هو قوة في حالة توتر دائم، وهو شريك غياب قوة مضاعِفة بسبب غياب شريك فعليّ ما يجعل توتره في ديمومة تعويضية هائمة لها شكل انفصال يساهم في اعطاء الأعزب صفة التعويض. شكل التعويض كتلوي، ما يجعل الأعزب، أعزب في كل شيء؛ سلوكاً وكتابة. إنها لفائدة درامية أن يحضر الآخر برموز مقارنة، ويغيب شخصياً، عندها سوف يظل الأعزب في وحدة دائمية. تأخذ كتابته صفة وشكل الوحدة.
في قصيدة "الشاعر" لريلكة "وحيدُ، فما أفعل بصوتي، بنهاري؟ بليلي؟ وكلّ ما أستسلم له من الأشياء يَغتني ويهجُرني"، تشير كلمة "وحيد"، إلى شكل الانفصال، حائر ذو عزلة فكرية واجتماعية، إذ لو كان لدى الشاعر شريك، لتقاسما الفعل، فعل المشورة، فعل التفكير معاً بتجاوز الوحدة كمأزق. هنا الوحدة فعل كتابيّ، يشتمل الزمن في كلمتي"الليل والنهار"، والوجود ككتابة متمثلة في الصوت رديف الكلام بمعنى الحديث والاجتماع إلى الآخر. تقود كلمة "كلّ" إلى نفي الشراكة المتبادلة العضوية واللاعضوية على المطلق الاّ من جانب الشاعر؛ الزوجة، الصديق والعائلة، الموجودات التي يتعامل معها الشاعر يومياً، الطاولة، الأثاث، ثم تجلب كلمة "كلّ" الوحدة ذاتها شريكاً. هناك جانب متميز في كتابة الأعزب وهو الاستقطاب الأحادي من طرف واحد. استقطاب بمسار واحد: الانشغال مع الذات حصرياً، نتيجة العزلة الاجتماعية وغياب الشريك العضوي، يتعوّد الأعزب استقطاب ذاته، يأكل، وينام معها، يشتغل بمعزل عن رقابة خارجية. هكذا، يصبح مستقطِباً وفاقداً في اتجاه واحد، وهاتان الصفتان متآخيتان في أعماقه، تعزّز إحداهما الأخرى طردياً. أي قوة الاستقطاب تعادل قوة الخسارة، استقطاب خاسر إجمالاً. استقطاب الخسارة شامل وفاعل. يتعوّد الأعزب التفكير وحيداً روحياً باتجاه واحد وهو الاستقطاب الخاسر أو الفقدان، يتعوّد الألم فيبدو متألماً جداً، ويصل به إلى عمق المأساة، يتعوّد الوحدة متصلاً بالفقدان في نقطة اللاتعويض النهائية التي لا تومِّن الرجعة. يصبح كالمغناطيس يجذب العناصر المتآخية لذاته من الحزن، الوحدة والخسارة. يطغي عليه الشعور الروحي بالعالم وليس العملاني. تسود حالة الانكسار حتى في حيازة اللّذة نتيجة المداومة على الوحدة. كتابة الأعزب هي المداومة على حالتي الاستقطاب الدائم الخسارة والفقدان الدائم، يكون الاستقطاب فاقداً. "كلّ ما أستسلم له يَغتني ويهجُرني"، مأساة هذا الشعور ليست في الخسارة، إنّما في كلمة "كل"، النافية لكل أمل اكتساب بشري وغيربشري لا يهجر. كلمة "يغتني"، هي الآخرى في عمق الآخر البشري، على الرغم من إشارتها إلى الأشياء، تشي بصفاته النهمة بالسلب والمكافئِة بالفقدان، آخر غير موضوعي وغير عادل في سلبه وعطائه بخلاف ذات الشاعر المانحة، وهي ذات في أوج العطاء، ثروة دائمة ثري غناها، هذه الثروة الشاسعة تشي بها كلمة "كلّ"، التي تعطي إنطباعاً بأن الشاعر قد جرّبَ عدّة ذوات، وليس ذاتاً واحدة فحسب، جرّبَ عدّة أشياء وليس شيئاً فقط، بحيث أصبح اليأس من الآخر ومن الأشياء سيان. عودة إلى مفهوم الاستقطاب الدائم، فان الكل المجَرَّب سيلقي صفاته حتى على الواحد غير المجَرَّب مانحاً الهجران الكليّ، وهنا تصبح الخسارة عظيمة عندما يكون استقطاب الفقدان عامّاً شاملاً وليس جزئيّاً محصوراً. يصير وضعاً ليس حالة.
تتضمن كلمة "كلّ"، اليأس، إذ لا ييأس المرء من الجزء الذي فيه إمكانية وجود الأمل، يصبح اليأس فجيعة كلية عندما يكون مفهوماً تنطوي فيه سيرورة علاقة مع العالم، إذ تنطق ال "كل" بالحدث وليس بالصدفة. يرتبط الشاعر بالآخر من خلال معايشة طويلة، علاقة، وهي ممارسة تفرز نتائج ملموسة، مثلاً، خيبة سلب واحباط، يأسُ الشاعر هنا من العالم ليس تشاؤمياً إذن، بل تراجيدياً. والشريك المعطِل للتعويض هو من يكسب اليأس صفة الحدث في استقطاب ثنائي مستمر، الشريك/ المعطِّل. تراجيديا ذاتها في بيت المتنبي" وحيدٌ مِن الخُلان في كلّ بلدة/ إذا عظم المطلوبُ قَلّ المساعدُ". لا يمتلك الحلم العظيم أصدقاءً ولا أعواناً يساهمون تحقيقه: يبدو الخليل مفقوداً، بسبب امتلاك الشاعر الحلم العظيم، وليس العكس. تُعبّر عبارة "وحيد مِنْ" الخسارة المجرِبة التي تسود بعد اكتساب الآخر فعلياً، أو بعد أمل اكتسابه تمنيّاً. تنوجد المسافة في فقدان الخليل متحقّقة بـ"مِنْ". عظيم طموح الشاعر، أي عزلة أحلامه مضمرة بـ"مِنْ" تشير إلى تجربة مريرة مع الحلم المجهَض من جهة ومع الآخر المساهم في النكوص من جهة ثانية. يتعاونان معاً على طرد الشاعر من الحلم ومن العاطفة فيغدو التواصل مع الآخر بما يشبه علاقة به، ولكن من خلال نفي مستقطِب ومستقطَب، يمنح التعويض على شكل ابتعاد فعليّ عنه، تنقّل ونزوح.
تود كتابة الأعزب الاقتران بشريك من خلال السفر بمعنى مغادرته، تسير معه دائماً نحو خسارة ضمنية. في السفر، خسارة المكان الثابت والاستقرار المؤسّس. تشير كلمة"كلّ" في بيت المتنبي إلى حتمية غياب الخليل أينما يحلّ الشاعر في المكان وفي الزمان. ثمة احتمالية في تعويض غياب الخليل مكانياً، هذه مفقودة مطلقاً زمانياً. تكمن المأساة حالما يصبح غياب الحبيب زمانياً، عندئذ تحوز المكان تلقائياً وتصل درجة الامتلاء والتكاثر، تلد مصائب أخرى. مأساة المأساة عندما تكون زمانية وعندما يكون لها فم ينطق بغير المواساة.
كتابة تسعى إلى اخلاء السجون
يقول غوته "الشعر هو خلاص". هل المعنى المقصود، أن الشعر مسار خطيّ يتجه نحو نتيجة معينة، أم هو سيرورة، حركة، مسار ذو إتجاهات؟. الخلاص يعني الوصول إلى نهاية التجربة، تطهير ديني. يكتسب الشعرعندئذٍ صفة المنتهي وهو الخلاص هنا وكذلك صفة الغاية المنتهية المتجلية بالاقتران والارتباط. هل الخلاص إبداعياً نتيجة؟ ينبغي تحييد المغزى الديني من الخلاص كي نناقش خلاص غوته إبداعياً. هل هو يقصد الخلاصات أم الخلاص ككينونة نهائية؟ في المقصد الثاني، انكار جدوى الاستمرار بكتابة الشعر بعد حيازة الخلاص مخالفاً ما يقوله في موضع آخر: "الكيان الذي لا يشهد أي تحوّل يصير إلى الزوال". الخلاص نهائيّ لايتحول إلاّ من وجهة دينية، والخلاص النهائيّ غير موجود في الأدب، إنّما ينوجد من خلال تجلياته التي لا تعني مساراً خطياً مطلقاً، والخلاص إبداعياً هو عبارة عن خلاصات كثيرة، كلّ مسار يؤدي إلى منافذ. كما هو يحمل النقيض والاثبات، فالخلاص موجود وغير موجود. موجود في حالة الإيمان بوجوده، وثمة خلاص في التخلّص من الخلاص. الخلاص إيدلوجي يقينيّ صاحب الثبات. الشعر ليس خلاصاً في ممارسة كتابة الأعزب، الخلاص يعني الشريك ذو النتائج الحصرية، واقتران بشئ ما واحد لاغير، بينما كتابة الأعزب، تستعين باليتم، بالغياب شريكاً، ولا تحلّ الغياب محل الشريك. هي تنفي الاحلال، تنفي عمق الوحدة ومسوؤليته تجاه العالم، تقبض على الفقدان صراحة ولا تموهه. الاستعانة هي غير الاقتران. في الشراكة اكتمالات وتشابهات، في الاستعانة ثمة عوز يؤكد الغياب ويجعله حالة معيش سائدة، كما يقول ريلكة في قصيدة "نهار خريفي" مَنْ كان الآن بلا منزل فلن يشيد منزلاً أبداً، مَنْ كان الآن وحيداً فسيظل كذلك طويلاً".
يبدو المستقبل كشكل وكوضعية شاخصاً في كلمة "الآن"، التي لولاها يصير المعنى تشاؤمياً، تعطي كلمة "الآن"، أسباب ومبررات الوحدة المستقبلية، فهي تكتسب وجودها من الزمن، هي الوحدة التراجيدية. لو نعيد قراءة البيت الشعري من دون كلمة الآن" مَنْ كان بلا منزل فلن يشيد منزلاً أبداً، مَنْ كان وحيداً فسيظل كذلك طويلاً". غياب"الآن" هو غياب لتراتبية الوحدة الزمنية، سيختصرها إلى وحدة غير تراتبية، وحدة نفسية غير معرفية وغير تراكمية نافياً عنها صفة التراجيديا. تصير الوحدة مع كلمة "الآن" وجوداً؛ أسلوب كتابة وطريقة تعامل، مضاعِفة ذاتها إلى وحدات فكرية واجتماعية وكتابية. الوحدة هي المختلف، عوز دائم إلى العزلة وهنا خطورتها اجتماعياً وفائدتها معرفياً.
التراب والرماد
قصيدة الشاعرة الروسية مارينا تسفتاييفا "أؤلئك الذي لم يبتنوا بيتاً، لا يستطيعون العودة إلى التراب، أؤلئك الذين لم يبتنوا بيتاً، لا يستحقون العودة إلى التراب. ربما إلى التبن أو الرماد عادوا، لكنهم إلى التراب، لن يعودوا أبداً. وأنا، أنا لم أبتنِ بيتاً".
هل ذات الشريك مقارِبة التراب، وأنا الوحدة مقارِب التبن أو الرماد؟. الرماد والتبن من سلالة واحدة وهي الاشتعال، وهما نتيجة تحوّل الخصب. النباتات تتحول إلى التبن، والحطب إلى الرماد. يرتبط التبن والرماد بالأعزب في نقطة اللاجذب، نقطة عدم الاهتمام من لدن العالم الخارجي، في غفلية ونسيان، لكن لهذا اللاهتمام نقطة مركزية تتمحور حولها الذات مانحة إياها قوة مقاومة فكرة الخضوع إلى مركز الاهتمام ومركز الذاكرة. تحتوي كلمة" أبداً" في بيت تسفتاييفا تلك النقطة المسوؤلة عن الممانعة وعن بقاء الأعزب وحيداً في وحدة زمانية بمنأى من جذب الشريك. كتابة الأعزب، كتابة الوحدة الزمانية، لا كتابة الوحدة المكانية، فالمكان يسهل تعويضه، لديه قدرة شحن عاطفي ذاتيّ، يغيب ثم يعوّضُ غيابه. المكان كالأخطبوط ذو مجسات ترتبط بالصداقة بالماضي وبالذكريات. ولهذا فهو في طاقة تعويضية لا تنضب، بعكس الزمان لا أصدقاء له. يرتبط التبن والرماد بالأعزب من جهة غياب البيت، "أنا لم أبتنِ بيتاً". كلّ من الرماد والتبن يؤكد الغياب ذاك. البيت جماعي فيه شخصية الشريك، الرماد والتبن والغياب فردي له شخصية كتابة الأعزب، وهم نظائرٌ لها. العزوبية حالة خرساء لا تنطق إلاّ كتابة. هي سلوك يتعامل مع العالم من زاوية الوحدة الشاملة كذات وحيدة، تفكير ينطوي على حقيقة، أن ثمة ذات وحيدة تفكر.المطلوب من الوحدة ومن العزوبية عقابياً هو الصمت، عندما يكون الصمت سارياً لا محالة، يكون العقاب فاعلاً. الكلام هو الحالة التي تعيّن صفة الشخص. الصمت المفروض هو أحد وسائل السلطة، والزواج المفروض كذلك:
يلاحظ في أثناء الحرب العراقية الإيرانية، أن السلطة وقتذاك كانت تشجع الزواج وتدعمه مالياً، تشجع الصمت المفروض، احتياطي الموت والحروب القادمة، فالجيل المولود نتيجة هذا الدعم المالي في الثمانينات، سيكون وقود حروب السلطة لاحقاً في عام 2003 وحتى ما قبله. هي بهذا تضمن استمرار الموت الذي يؤمِّن لها الحياة. ليس خافياً انتشار الريبة آنذاك بين أفراد العائلة الواحدة، بين الأب والابن والزوج والزوجة. تنشّطُ السلطة دور المخبرين والتنصت على الكلام، فيصبح كلّ من الدولة والمجتمع منظومتى وشاية، عقاب ومكافأة. كان يعاقب على شتم الرئيس، ومكافآت التنصت على شكل ترقيات وظيفية أو مالية. لا مهرب إذاً من الصمت الذي تتعدّد أشكاله؛ توقفُ من الانتقاد، وصمت اجتماعي من خلال الاقتران بشريك. يسهل التنصت على الشريكين، وربما يساهمان فيه ضد بعضهما البعض. كلما تتسع دائرة الشراكة تكبر إمكانية اختراقها. غدت الشراكة بدلاّ من البناء تشجيعاً على حروب أخرى، إنها ولادات جديدة تضمن الاحتياطي البشري للحرب، يألفُ الجيل الجديد ثقافة الحرب المنافسة للمدرسة. فتصير تربية الصمت مركبة، من جهة الأب المشارك في الحرب، ومن الابن المولود في زمنها. تقلّ شجاعة الفرد على انتهاك الدولة بسبب الاقتران الاجتماعي. يصير الضعف مركباً خصوصاً في ظِل نظام مستبد. تحب السلطة الضعف المركب المؤدي حتماً إلى الصمت المركب ذي طبقات صمتية، يتجسّد في اذعان وقبول الموت حتى. كان شكل الصمت مفروضاً وسائداً في العراق؛ في المدرسة وفي الحزب، في المصنع وفي فراش الزوجية، مقترناً بشكل آخر للصمت وهو فرض التعتيم الليلي، أي اطفاء الأضواء لئلا ينكشف العراق كهدف حربي. صار المواطن صفة صمتية، يأكل وينام ويمارس الحب في عمق العتمة. فرض العتمة قسرياً من جانب الدولة، يرافق حضورها عملياً، فالفارض هو القوي، تنظر السلطة إلى مواطنيها على أنهم منفّذو أوامرها فقط وليسوا مواطنين. قبول الصمت هو قبول لصفة الرعايا وهو قبول عبودية. وما تزال السلطة في العراق حتى الآن في عدم وفاق مع الأعزب، أي مع الكلام، فهي لم تمنحه حقوق المتزوج في تشريعاتها القانونية الأخيرة بما يتعلق بتعويضات المهجّرين. تجعل الكتابة الوحدة تتكلم وتهدّد، فما بالك بكتابة الأعزب التي تسعى إلى تفريغ السجون. الكلام ممارسة ضدّ السجن. تطمئن السلطة إلى قبضتها بجانب السجون. كلّ سلطة تتخذ دائماً صفة القناع في علاقتها بالسجون التي لن ولم تتخل عنها. دائماً ثمة سجون، السجن الكلامي، السجن الاجتماعي في جانب السلطة مهما كانت عادلة. لا يعني الأعزب مَن هو غير المتزوج، إنّما كتابة الأعزب المقصودة، الزواج وعدمه غير مقصودين. يشير ريلكه صراحة إلى الوحدة في الزواج، وبالتالي يثني ضمنياً على كتابة الأعزب: "الزواج الناجح هو الذي ينصِّب فيه الآخر حارساً لوحدته، ويريه ثقته به والقوة التي يمكن أن يهبها إياه".
الكلام في الفن التشكيلي
تحريرالكلام واضح في لوحة "الجورنيكا" للفنان بيكاسو. الوجوه البشرية وإن تكن مذعورة في اللوحة مع رؤوس الحيوانات تتكلم مقاومةً الصمت وغاية فرضه، مهم درء الصمت، لكن الأهم مكافحة فرض الصمت التي تعني مكافحتين هما؛ مقاومة الصمت وعدم الخضوع إلى غاية فرضه. يسيطر الكلام في كادر اللوحة متمثلاً ليس فحسب الوجوه الفاغرة، أنّما الأشكال الفاغرة، معزّزاً إحساساً مزدوج الوظيفه في مقاومة الحرب. هنا فرض يقاوم قسراً آخر، بمعنى أن توزيع الكلام يفرض الكلام في اللوحة، طارداً الموت المفروض نتيجة عواقب الحرب.
يحضر الكلام كفائدة علمية في لوحة رمبرانت "درس الشراحة". يشرح البروفسور تولب الدرس إلى سبعة أطباء مجتمعين حول جثة. الدرس، يعني النقاش الذي يسود على كامل اللوحة من طريق كيفية وقوف الشخصيات بجانب بعضها البعض حول الجثة، يبوح هذا التوزيع الشكليّ متعاوناً مع شكل العصا بيد البروفسور باتجاه الجثة بصفة الكلام. إذ تشير العصا إلى النقاش بين الحاضرين، فالكل ينظرنحوها. كلام باتجاه جثة مرادفة الصمت. شكل وقوف الشخصيات يعطي شكلاً من النقاش والكلام. بمعنى أن الكلام سببُ وقوفها على النحو ذاك، فهي تتنصت الدرس باهتمام. والكلام هو سببُ كثافة الضوء على الجثة. الكلام الحياة غاية لوحة" درس الشراحة"، أي معرفة أسباب الموت. يتناسب الدرس (الكلام) بوصفه فائدة علمية مع كثافة الضوء المنبثق من وجوه وياقات الحاضرين وظيفياً. يأخذ الكلام وظيفة الضوء، انارةُ ما هو خفيّ على الطب، وجعله مكشوفاً في مرتبة الضوء الكلام. هذه المرتبة ليست غريزية ولا هي حتمية الوقوع، إذ من الممكن أن يصير الكلام هو الموت، والعكس كذلك أو يصير عقوبة في حالة الوشاية التي يترأس تدبيرها المخبر.
ليس العمى سجناً، إنّما منع الكلام هو السجن، لأنه يتحقّق قسراً، وهو ضرارة اللسان، أي ضرارة بصيرة اللسان. يكتسب منع الكلام شكلَ منعٍ فيه منفذون وأبراج مراقبة. يتوسط المخبر الكلام كبرج مراقبة محاكاة للسجون كبناية، وكالأب العضوي في العائلة. الأب هو منع في أغلب الأحوال، والأم هي موافقة ونقاش، لذا يلتجئ اليها الأبناء في أسرارهم. يمنع المخبر الكلام عندما يترصده، لكنه في المقابل يعتاش عليه، إذ لا وجود لوظيفة المخبر من دونه. المخبرُ مأزق نفسه ومموّل نفسه ذاتياً. وعليه، لا يكتفي بوظيفة برج المراقبة، بل يسعى أن يكون الكلام نفسه، يسعى إلى الوشاية أو إلى تلفيق الكلام. بالنسبة اليه، الكلام ليس عدواً يجب قمعه، عملانياً هذا صحيح، لكن باطنية المخبر تلتجأ إلى تشجيع الكلام كمعين. ثمة بناء دراميّ في وظيفة المخبر، فهو ينتقي أو يلفق الكلام الذي يتماشى ومهنته، ويهمل الباقي، إنه مؤسسة رقابية وعقابية معاً. وعندما يسجن الكلام يسعى إلى اطلاق سراحه كي يستمر في وشايات أخرى، هو ناقل الكلام وسجّانه.
يجب أن يمتلك منع الكلام كبناية السياج والحواجز، يبني المنعُ السياج الذي يعني عدم التجاوز، الممنوع عبوره، وهوالسلطة والنظام السياسي. ينتصر المنعُ عندما يكتسب الكلام من السياج صفاته والأفظع، بعدما يصير الكلام ذاته سياجاً، يستر ويتستر، كما تصبح الكتابة متعاونة مع السلطة حالما تبني السياج. السجن ومنعُ الكلام يتوخيان العقوبة. كتابة الأعزب هي كتابة تهديم السور، كتابة في العراء وكتابة العراء.عندما تتكلم كتابة الأعزب تنجو من القصاص المأمول من فرض الصمت. وعليه، يغدو السجن هكذا بناية من دون عقوبة .